هل تقفز المها على تحديات الواقع الجيوسياسي؟
منذ أن بدأت الأزمة الخليجية وتجلي موقف دول الحصار
تنامى لدي إحساس بقسوة الجغرافيا وذلك أن قطر تشكل إمتدادًا طبيعيًا لشبه جزيرة
العرب، ذلك الإمتداد لا يقتصر على الأرض بل يشمل جميع نواحي الحياة الاجتماعية
والإقتصادية وحتى الدينية، هذا ولم يخطر ببال أحدٍ أن يُقطع ذلك الشريان الرئيسي
بحصارٍ لا شك أنه مربك لعجلة التنمية ومؤثر على الاقتصاد فضلا عن حالة الإحتقان الشعبي
وآثاره النفسية التي خلفها ذلك الإجراء غير المسؤول دون أي إعتبار للعهود
والمواثيق الملزمة للدول الأعضاء في منظومة مجلس التعاون الخليجي، ودون أي إحترام
للآليات المتبعة لفض النزاعات في تلك المنظمة.
لم تكن الجغرافيا وحدها قاسية بل كان للتاريخ موقفًا لا
يقل وطأةً أيضًا وذلك عندما يجتزأ منه بمعزل عن سياقات الأحداث وظروفها ما يبرر
سياساتٍ وإجراءاتٍ تعسفيةٍ، لقد دأبت دول الحصار منذ بدء الأزمة وبطريقة مبرمجة
مسبقًا توظيف الخلافات والمواقف السابقة بإنتقائيةٍ مقيتةٍ تؤدي لتشويه المشهد وشيطنة
الخصوم سعيًا منها لشحن الرأي العام الداخلي والخارجي ليس ضد حكومة قطر فحسب بل
تعدى ذلك إلى تعكير صفو لحمة القبائل والأسر الخليجية التي وجدت نفسها مستقطبةً
سياسيًا في دولٍ لا تعطي أصلًا أي فسحةٍ من حرية التعبير للمواطنين الذين تسعى
جاهدةً لتوظيفهم لخدمة أجندتها السياسية وتفرض العقوبات ضد من يصمت فضلًا عن من يتخذ
موقفًا مخالفًا لتلك الأجندات.
لقد كنت أتأمل المشهد الخليجي بكل أبعاده وأستعرض خارطة
الخليج العربي مدققًا في حدود قطر التي تحيط بها مياه الخليج عدا الشريط الحدودي
المغلق مع جارتها الكبرى، أقيس المسافات بينها وبين اليابسة على الطرف الآخر من
الخليج وأتفحص الجزر التابعة لها وكأنني أبحث عن شيءٍ ما، وأتساءل ...
كيف يمكن مواجهة تحديات الواقع الجيوسياسي؟
هل بالإمكان إحتواء تلك التحديات ضمن مشروعٍ
نهضويٍ حضاري؟
هل لدينا القدرة للقيام بقفزة عظيمة تضع أقدامنا على
ضفاف الدول المتقدمة؟
كانت تلك أهم التساؤلات التي خطرت لي وأنا
أمعن النظر في جغرافية قطر وحدودها على خلفية الأزمة التي إفتعلتها دول الحصار، قد
نتفق أو نختلف على شمولية تلك الأسئلة ولكن الإجابة عليها قد تكون مفتاحًا لمستقبل
أفضل.
تحديات فاقت الواقع الجيوسياسي
لنرجع بالذاكرة إلى ماقبل خمسين عامًا
تقريبًا حيث البدايات لإحدى دول مايسمى بالنمور الآسيوية والتي إستقلت عن
الإستعمار البريطاني في العام 1965 أي قبل ستِ سنوات فقط من إستقلال دولة قطر،
إنها دولة سنغافورة التي يطلق عليها البعض "معجزة آسيا الاقتصادية"، لقد
بدأت سنغافورة من نقطة الصفر تقريبًا لتصبح خلال أربعين عامًا من أقوى إقتصاديات
العالم ويرتفع دخل الفرد السنوي فيها من ما يقارب 240 دولار سنويًا إلى ثالث أعلى
دخل في العالم بعد قطر ولوكسمبرج ليصل إلى ما يقارب 80 الف دولار سنويًا وذلك حسب
أحدث التقارير التي صدرت في العام الجاري.
كانت بداية سنغافورة مليئة بالتحديات التي كان أقلها
أهمية هو التحدي الجيوسياسي، ففضلا عن مساحتها الصغيرة والتي لا تتجاوز 700كم
مربع، وإنعدام الموارد الطبيعية من نفط وغاز ومعادن، وشحٍ في المياه الصالحة
للشرب، ونسبة بطالة تجاوزت الـ 14%، وشعب ذو أعراق وثقافات وديانات متعددة، فضلًا
عن كل ذلك فقد عصفت بها الخلافات السياسية والإقتصادية التي حدت من التعامل مع الدول
المحيطة بها وخصوصًا ماليزيا.
لقد سعى رئيس الوزراء السنغافوري آن ذاك السيد "لي
كوان" لتحفيز الاقتصاد عن طريق طلب المساعدة الدولية إلا أن سعيه باء بالفشل
ولم تمتد له يد العون، لقد ترك المجتمع الدولي سنغافورة لتواجه مصيرها بمفردها
عندها أدرك السيد "كوان" أن التغيير لن يأتي من الخارج وأن عليه العودة
إلى الداخل والإعتماد على النفس.
لقد أعتقد السيد "كوان" أن الإتجاه للتصنيع قد
يكون هو الحل للعديد من التحديات، فشرع في تنفيذ برنامج إقتصادي شامل يعتمد على
التصنيع كثيف العمالة بحيث يحل مشكلة البطالة إلا أنه واجه صعوبات مرتبطة بقلة
الخبرة الصناعية لدى الشعب السنغافوري حيث أن معظم السكان كانوا يعملون في مجال
التجارة والخدمات، علاوة على ذلك عدم وجود سوق محلي يستوعب المنتج الصناعي في ظل
وجود عقبات أمام التبادل التجاري مع الجيران بسبب توتر العلاقة.
قفزة النمور الآسيوية
في ظل تلك الظروف الصعبة بدأ التفكير في القفز على التحديات
والتواصل مع العالم المتقدم لإجتذاب الشركات المتعددة الجنسيات للتصنيع في
سنغافورة، فبدأت الحكومة السنغافورية بإنشاء "مجلس التنمية الاقتصادية" ليتولى
المهمة، ولكن كان على الحكومة أيضًا خلق مناخ آمن ومنظم وخالي من الفساد بالإضافة
إلى قيامها ببعض الإصلاحات الاقتصادية المتعلقة بالضرائب، بمعنى آخر العمل على
تذليل العوائق التي قد تؤثر على جذب الإستثمارات الأجنبية، وبسبب مستوى النزاهة
والشفافية التي تحلت بها حكومة السيد "لي كوان" والصرامة التي واجهت بها
الفاسدين كسبت الحكومة ثقة الشعب السنغافوري فكان له دور فعال أيضًا في مساندة
الحكومة في توجهاتها.
وعلى النقيض من دول الجوار التي كانت تعمها الفوضى
والغموض ويعصف بها الفساد، كانت سنغافورة تنعم بالاستقرار وتسجل تقدمًا حثيثًا في
مستويات النزاهة والشفافية ، وأصبحت مكانًا مثاليًا للتصنيع والإستثمار والتصدير
إلى الخارج بعد أن إستغلت موقعها الجغرافي حيث تعد مدخلًا "لمضيق ملقا"
الذي تمر من خلاله ما يقارب 40% من التجارة البحرية العالمية فأنشأت مينائها الذي
أصبح فيما بعد من أهم موانيء جنوب شرق آسيا.
وبعد مضي سبع سنوات فقط من إستقلال سنغافورة أي
بحلول العام 1972م كان ربع المصانع في سنغافورة إما مملوكة بالكامل لمشتثمرين
أجانب، غالبًا أمريكيين أو يابانيين، أو مشتركة مع مواطنين، ونظرً للنمو المتسارع
للناتج المحلي وتعافي الاقتصاد السنغافوري بدأ التركيز والإهتمام بتنمية الموارد
البشرية حيث طلبت الحكومة من الشركات الأجنبية تدريب العمال السنغافوريين وإكسابهم
المهارات في العديد من المجالات الصناعية والتكنولوجية، والجدير بالذكر أنه بحلول
العام 1970 أصبحت المنسوجات والإلكترونيات من الصادرات الأساسية، وفي العام 1990
أصبحت سنغافورة ثالث أكبر مركز لتكرير النفط في العالم ومنتجًا رئيسيًا
للبتروكيماويات إضافةً إلى ذلك بدأ تصنيع الشرائح الإلكترونية الدقيقة وأبحاث
التكنولوجيا الحيوية والأدوية وهندسة الطيران، وما أن حل العام 2001 حتى أصبحت
الشركات الأجنبية تمثل 75% من الإنتاج الصناعي و85% من الصادرات الصناعية.
مقارنة
لو نظرنا بعين المقارنة بين
قطر وسنغافورة على خلفية بعض الإحصاءات والمؤشرات الصادرة عن وكالة الإستخبارات
الأمريكية كما هو في الجدول المرفق لوجدنا تطابق في مجمل عناصر تلك المؤشرات
خصوصًا مايتعلق بالتعليم والإقتصاد، في حين تتفوق قطر بمواردها الطبيعية من نفط وغاز،
ومعدل دخل فرد يفوق بـأكثر من 40%، ومؤشر الدين العام الذي يعادل ثلث الدين العام
لسنغافورة، ومعدل نمو يفوق بـ 25%، ونسبة بطالة لا تذكر إذا ما تجاهلنا البطالة
المقنعة، وبمساحة جغرافية تعادل أكثر من 16 ضعف مساحة سنغافورة، وكثافة سكانية
ضئيلة جدًا بالمقارنة.
وفي المقابل نجد أن الميزان
لصالح سنغافورة عندما نتحدث عن مؤشر التنمية البشرية، ومؤشر الشفافية الدولية،
ومؤشر الضرائب، ونسبة التضخم، وتنوع مصادر الدخل، والتصنيع والبحث التكنولوجي
والطبي، وحرية الصحافة.
|
قطر
|
سنغافورة
|
المساحة
|
11586
|
697
|
تعداد
السكان
|
2.5
مليون
|
6
مليون
|
الدين
العام (من الناتج المحلي)
|
30%
|
99%
|
مؤشر
التنمية البشرية
|
0.85
(عالميًا 33)
|
0.91
(عالميًا 10)
|
التعليم
(يقرأ ويكتب)
|
98%
|
97%
|
الإنفاق
على التعليم
|
2.45%
|
2.94%
|
البطالة
|
0.1%
|
2.2%
|
التضخم
|
1.61%
|
0.04%
|
معدل
النمو
|
3.98%
|
2.92%
|
الضرائب
|
40.2%
|
15.9%
|
حرية
الصحافة
|
36%
|
53%
|
ولكن هل لدينا مشروع؟
لاشك أن الظروف الراهنة في منطقة الخليج المتمثلة في
أزمة حصار قطر وما كشفته من نقاط ضعف وقوة وضبابية في بعض الأحيان خلقت وعيًا
ملموسًا لدى المجتمع القطري بالعديد من قضاياه مما جعله مهيأً أكثر من ذي قبل
للتفاعل الإيجابي مع الإطروحات الفكرية التي تعنى بحاضره ومستقبله، كما أن هناك
شعورًا عامًا بالوحدة والإنتماء بدأ يتنامى عند الغالبية العظمى من المجتمع ينبغي
توظيفه في المشاريع الوطنية النهضوية.
وبالنظر إلى الأداء
الحكومي المتميز على الصعيد الداخلي والخارجي والذي وضع قطر في مكانة مرموقة على
خارطة العالم في العديد من المجالات، إضافة لما شهدناه من إدارة مؤسسية حصيفة في
التعامل مع معطيات أزمة الحصار الراهنة خصوصًا على الصعيدين السياسي والإقتصادي،
إلا أننا لازلنا في حاجة لمشروع نهضوي شامل يضعنا في مصاف الدول المتقدمة، مشروعًا
تتضائل أمامه التحديات الجيوسياسية التي قد تشكل تهديدًا محتملًا لمستقبلنا،
يأخذ
بعين الإعتبار تجارب الماضي ومعطيات الحاضر وتحديات المستقبل ويهدف في المقام
الأول إلى تعزيز القيم الإنسانية وتصحيح بعض مكونات ثقافة المجتمع ضمن منظور شامل
تكون أهم أولوياته تهيأة أفراد المجتمع ليكونوا أكثر تأثيرًا وتفاعلًا مع قضاياه
وتحدياته.
إبراهيم هاشم السادة